دي ماريا من تعبئة الفحم إلى التتويج بكأس العالم

دي ماريا من تعبئة الفحم إلى التتويج بكأس العالم

في أحد أحياء مدينة روزاريو الأرجنتينية المتواضعة، نشأ الطفل النحيف أنخيل دي ماريا، الذي لم يكن يمتلك سوى حلم بسيط بأن يصبح لاعب كرة قدم. هذا الحلم قاده من تعبئة أكياس الفحم في صغره إلى رفع كأس العالم وتحقيق إنجازات كبرى في عالم كرة القدم في شبابه.

وُلد أنخيل فابيانو دي ماريا في 14 فبراير/شباط 1988، ليواجه منذ اللحظات الأولى قسوة الحياة، حيث كانت عائلته تعيش في غرفة ضيقة داخل منزل بسيط، مع حلم صغير بالنجاة من براثن الفقر.

كان والد أنخيل يعمل في مصنع للذخيرة قبل أن يصاب بعجز دائم في ذراعه، مما اضطره إلى العمل في تعبئة وبيع مواد التنظيف من المنزل. أما والدته، فقد كانت تدعم زوجها من خلال العمل في التجارة، بينما كان الأطفال الثلاثة يساعدون في تعبئة الفحم وبيعه في الصباح قبل الذهاب إلى المدرسة.

نصيحة ذهبية

في صغره، لاحظ الطبيب فرط حركة أنخيل ونصحه بتفريغ طاقته في ممارسة الرياضة. ومن هنا، بدأ الطفل النحيل رحلته مع كرة القدم.

لم تكن كرة القدم بالنسبة له مجرد لعبة، بل كانت وسيلة للهروب من عالم ضيق ومحاصر. لم يكن يمتلك حذاءً جديدًا، وكانت والدته تلصق حذاءه المتآكل كل عدة أشهر ليصمد لمباريات جديدة.

وفي يوم من الأيام، كاد أن يُدهس أثناء اللعب في الشارع، في حادثة كادت أن تنهي قصة لم تبدأ بعد.

تألق دي ماريا في كأس العالم للشباب عام 2007 في كندا، حيث أظهر موهبة استثنائية.

في سن الـ16، حصل دي ماريا على فرصة العمر حين التحق بأكاديمية “روساريو سنترال”، وبرز بسرعة بفضل سرعته ومهارته. آنذاك، أعطاه والده عامًا واحدًا لإثبات ذاته: إما أن يلعب للفريق الأول، أو يبحث عن عمل. وبحلول نهاية المهلة بشهر، خاض دي ماريا أول مباراة احترافية، وسرعان ما أصبح نجماً صاعداً في الدوري الأرجنتيني.

نقطة التحول

في عام 2007، تألق دي ماريا في كأس العالم تحت 20 عامًا في كندا، حيث قاد منتخب الأرجنتين إلى اللقب بجوار نجوم مثل أغويرو وبانيغا وروميرو.

بعد أدائه المتميز مع منتخب الأرجنتين للشباب، انهالت العروض الأوروبية على دي ماريا، ليختار في النهاية الانتقال إلى بنفيكا البرتغالي الذي دفع 6 ملايين يورو لضمه.

في البرتغال، بدأ أنخيل شق طريقه نحو النجومية، وجذب انتباه ريال مدريد بفضل مهاراته في الهجمات المرتدة، لينتقل إلى “البرنابيو” عام 2010 مقابل 25 مليون يورو.

مع النادي الملكي، كتب دي ماريا فصولًا من أعظم مسيرته، حيث أصبح عنصراً أساسياً في تشكيلة جوزيه مورينيو وكارلو أنشيلوتي، وساهم في إنهاء سيطرة برشلونة على الليغا. وفي نهائي دوري الأبطال عام 2014، قدم أداءً أسطورياً ضد أتلتيكو مدريد، مما ساعد ريال مدريد على الفوز بلقبهم العاشر.

بعد 12 عامًا في مدريد، انتقل دي ماريا إلى مانشستر يونايتد في صفقة ضخمة بلغت 59.7 مليون جنيه إسترليني، لكنه لم يتأقلم مع أجواء إنجلترا، فغادر سريعًا نحو باريس سان جيرمان. وفي العاصمة الفرنسية، كتب صفحات ذهبية، حيث أحرز 19 لقبًا وسجل 93 هدفًا وقدم 119 تمريرة حاسمة خلال 295 مباراة، ليصبح أحد أعظم من ارتدوا القميص الباريسي.

مسيرة دولية حافلة

أما على الصعيد الدولي، فكانت لدى دي ماريا قصة أخرى تتمحور حول الصبر والجراح والانتصارات المتأخرة. بعد مشاركته في كأس العالم 2010، أصبح عنصرًا ثابتًا في تشكيلة المنتخب الأرجنتيني، لكنه خسر ثلاث نهائيات متتالية: كأس العالم 2014 وكوبا أميركا 2015 و2016، وغاب عن بعضها بسبب الإصابة.

لكن في عام 2021، حالفه الحظ، حيث سجل هدف الفوز الوحيد ضد البرازيل في نهائي كوبا أميركا على ملعب ماراكانا، منهياً صيام الأرجنتين الذي دام 28 عامًا عن الألقاب الدولية.

وفي عام 2022، عاد دي ماريا ليُبدع في كأس العالم في قطر، حيث صنع هدف ميسي ضد المكسيك وسجل بنفسه هدفًا في النهائي ضد فرنسا بعد هجمة مرتدة مذهلة.

بعد مباراة تاريخية، فازت الأرجنتين بركلات الترجيح، ورفعت كأس العالم للمرة الأولى منذ 1986، مع مساهمة واضحة من دي ماريا.

ومع اقترابه من نهاية مسيرته، عاد دي ماريا إلى بنفيكا، النادي الذي منحه الفرصة الأولى، رافضًا العروض السعودية المغرية بقوله: “اخترت بقلبي”.

في موسم عودته، أثبت أن الزمن لا يمكنه سلب الموهبة، حيث سجل أهدافًا حاسمة ومرر كرات ساحرة، كما اعتاد دائمًا.

بعد كل تلك الإنجازات، يستعد دي ماريا لوضع نهاية لمسيرته الدولية في كوبا أميركا الصيفية بالولايات المتحدة. قد يكون هذا الصيف هو وداعه الأخير بقميص الوطن، لكنه سيبقى في الذاكرة ليس فقط كـ”جناح سحري”، بل كرمز لرجل انتصر على الفقر والصعوبات، وصعد من عتمة القاع إلى القمة.