
من غزة المحاصرة إلى مدن الضفة الغربية، يواجه الاقتصاد الفلسطيني واحدة من أسوأ الأزمات في تاريخه الحديث. لم تكن الحرب الأخيرة المُشتدة مجرد مأساة إنسانية فحسب، بل أيضاً ضربة اقتصادية قاصمة، تركت آثارها على كل بيت ومحفظة.
تزايدت أرقام البطالة والفقر بشكل غير مسبوق، والانكماش الاقتصادي تخطى مستويات الحروب السابقة، بينما يتطلع الفلسطينيون إلى مستقبل غامض يتطلب سنوات طويلة للتعافي، إذا ما تحقق ذلك أصلاً.
منذ بداية الصراع الأخير في أكتوبر تشرين الأول 2023، تفاقمت الأوضاع في الأراضي الفلسطينية بشكل غير مسبوق، حيث سقط أكثر من 50 ألف قتيل و113 ألف جريح حتى مارس آذار 2025. وقد تم تقدير الصراع الأخير بأنه أشد من الانكماش خلال الانتفاضة الثانية (2000) وحرب 2014 وجائحة كورونا، وفقاً لتقرير البنك الدولي في أبريل نيسان 2025.
وعلى الرغم من التوصل إلى هدنة مؤقتة في بداية 2025، فإن انهيارها في مارس آذار أعاد الأوضاع إلى نقطة الصفر، مما زاد من حدة الأزمة الاقتصادية والإنسانية.
أعمق انكماش اقتصادي في تاريخ فلسطين
شهد الناتج المحلي الإجمالي في فلسطين انخفاضاً بنسبة 27 في المئة في 2024، وهو أكبر تراجع منذ 30 عاماً، حيث انهار اقتصاد غزة بنسبة 83 في المئة، بينما تقلص اقتصاد الضفة بنسبة 17 في المئة نتيجة للقيود المفروضة على التنقل وفقدان فرص العمل.
أصبح سوق العمل في أزمة خانقة؛ حيث بلغت نسبة البطالة في غزة 80 في المئة بنهاية 2024، بينما تضاعفت في الضفة إلى 29 في المئة، وفقد نحو 90 في المئة من العاملين في قطاعي الصناعة والخدمات في غزة وظائفهم.
تضاعفت أسعار الغذاء بمعدل 100 مرة، وسجل التضخم معدلات جنونية؛ حيث تجاوز تضخم أسعار المستهلك في غزة 230 في المئة خلال 2024، مدفوعاً بنقص الإمدادات، خصوصاً بعد انتهاء الهدنة وإغلاق المعابر.
وصل العجز في 2024 إلى 1.3 مليار دولار (9.5 في المئة من الناتج المحلي)، وهو رقم غير مسبوق للسلطة الفلسطينية، مقارنة بـ 3.8 في المئة في 2023، وتراجعت تحويلات المقاصة من إسرائيل بأكثر من 50 في المئة، مما أجبر السلطة على تقليص رواتب الموظفين إلى 60-70 في المئة.
يعتبر النظام الصحي على وشك الانهيار، حيث خرج نصف مستشفيات غزة عن الخدمة، في ظل تفشي أمراض خطيرة مثل شلل الأطفال ونقص حاد في الأدوية والمياه.
أما بالنسبة لأزمة التعليم الشاملة، فإن نحو 745 ألف طالب في غزة خارج المدارس منذ أكثر من عام، و95 في المئة من المنشآت التعليمية تضررت أو دُمرت، وفي الضفة تقلصت أيام الدراسة إلى يومين أسبوعياً بسبب العجز المالي.
بالنسبة للبنوك، فهي صامدة لكنها في خطر. لا تزال البنوك الفلسطينية تحتفظ بسيولة معقولة، إلا أن خسائر القروض تزايدت، وتضرر 98 في المئة من البنية التحتية المصرفية في غزة.
يعتبر التحول الرقمي الملاذ الأخير، حيث ساعدت المحافظ الإلكترونية، التي يستخدمها أكثر من نصف مليون فلسطيني في غزة، في تخفيف أزمة السيولة، كما زادت التحويلات الإلكترونية عبر نظام «براق» لتتخطى 480 ألف معاملة في الربع الأخير من 2024.
ومن الجدير بالذكر أن النساء هن الأكثر تضرراً اقتصادياً؛ حيث سجلت أكثر من نصف المشاريع النسائية في غزة والضفة تراجعاً حاداً في الأداء، و62 في المئة من رائدات الأعمال قمن بتقليص عدد العاملين.
تجاوزت احتياجات إعادة الإعمار ثلاثة أضعاف الناتج المحلي، حيث قدر البنك الدولي والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي الكلفة الإجمالية لإعادة الإعمار بنحو 53.2 مليار دولار، منها 20 مليار دولار عاجلة خلال ثلاث سنوات، حيث بلغت وحدها الأضرار في قطاع الإسكان 15.8 مليار دولار.
وفق تقديرات البنك الدولي، لن تعود غزة إلى مستويات الدخل ما قبل الأزمة قبل عام 2038، بينما قد تتعافى الضفة بحلول 2028. ما تشهده الأراضي الفلسطينية ليس مجرد ركود اقتصادي، بل انهيار شبه كامل لمقومات الدولة والمجتمع.
بينما تبقى نهاية الصراع هي الأولوية القصوى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فإن معالجة الفجوة المالية، وتحفيز القطاع الخاص، وإصلاح البنية التحتية، ستتطلب جهوداً دولية جبارة وخارطة طريق طويلة الأمد تعيد الأمل إلى اقتصاد جريح وشعب منهك يناضل ويقاوم.